ذكرى ولادة الزهراء عليها السلام
25 February 2021
من الأعمال المهمة جداً والتي تتأكّد أهميتها في شهر رمضان هي تصفية النية وصدقها، ونظافة القلوب وطهارتها، بل إن الأعمال من دون صدق النية وطهارة القلب جثثٌ بلا أرواح وهياكل بلا معنى، فعن أمير المؤمنين (ع): النية أساس العمل(۱۶).
ونظراً لأهميتها الخاصة ومكانتها المتقدمة أشارت إليها، بل أكّدت عليها رواياتٌ عديدةٌ كثيرةٌ عن المعصومين (ع) منها نفس خطبة النبي (ص) حول شهر رمضان حيث قال (ص): فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة… والأعمال الصالحة شرطها النية الصادقة، وروحها طهارة القلب. والامتحان الأصعب إنما هو في مرحلة تنزيه القلب، وتصفية النية وإخلاصها لا في الحركات التي يقدر عليها كل أحد، بل حتى هذه الحركات إنما هي رشحاتٌ عن النوايا والهمم ومعلولات لها، وقد روي عنهم (ع): ما ضعف بدنٌ عما قويت عليه الهمة(۱۷).
وقد ورد في الحثّ على ذلك الكثير، منه ما روي عن الإمام الجواد (ع): القصد إلى الله تعالى بالقلوب، أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال (۱۸)، وعن الصادق(ع): القصد إلى الله بالقلوب أبلغ من القصد إليه بالبدن، وحركات القلوب أبلغ من حركات الأعمال (۱۹).
من الناس مَنْ يرى أن الصوم عن الطعام والشراب هو غاية الأعمال ومنتهى السعي فيرى بأنه (ليس وراء عبّادان قرية) كما يقولون! ونتيجة لذلك تضمر الطموحات، وتكثر السلوكيات غير المرضية بينما يحدّثنا النبي(ص)- كما روي عنه – بأن هذا المستوى هو أبسط وأدون مستويات الصوم فقد روي عنه قوله(ص): “أيسر ما افترض الله على الصائم في صيامه ترك الطعام والشراب”(۲۰).
هذا الذي نستكثره ونستعظمه هو أيسر ما افترض الله على الصائم في صيامه، وأما الأمور الأخرى فتعني ملاحقة كل جارحة لتوضع على الطريق المرضي لله من بصر، سمع، يد، رجل، لسان، بشر، جلد، أي جزء، أي حاسة، أي لحظة، لا بد من ملاحقتها لتكون على طريق الطاعة لله عز وجل وطلب رضوانه.
صوم أعمق هو الصوم عن الاشتغال بغير الله في داخل الإنسان، أن يكون قلب الإنسان مع الله، روحه متجهة إلى الله، الجمال الذي يشغله جمال الله، الهيبة التي تأخذ عليه كل أركانه هي هيبة الله، الرضا الذي لا يشتغل بدونه هو رضا الله، هذا صوم عن المخلوقين، صوم عن الدنيا، واتجاه بالكامل، وانشداد بالتمام إلى الله، هذا هو صومهم صلوات الله وسلامه عليهم فيما نراه. انتهى(۲۱).
فهناك غايةٌ أهم، ومطلبٌ أسمى من الصوم عن الطعام والشراب، وإنما جُعل الصوم عن الطعام والشراب وغيرها من مفطّرات جسراً للوصول إليه، وطريقاً للحصول عليه، وهو الدخول في حصن التقوى الحصينة التي تبدأ مسيرتها بالصوم عن المفطرات وتنتهي بالصوم عما سوى الله تعالى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾(البقرة/۱۸۳).
فجعل التقوى غاية للصوم وهدفاً يجب تحصيله من خلال الصوم. والتقوى درجاتٌ غايتها التقوى عما سوى الله تعالى. قال في التسهيل لعلوم التنزيل: درجات التقوى خمس أن يتقي العبد الكفر وذلك مقام الإسلام، وأن يتقي المعاصي والحرمات وهو مقام التوبة، وأن يتقي الشبهات وهو مقام الورع، وأن يتقي المباحات وهو مقام الزهد، وأن يتقي حضور غير الله على قلبه وهو مقام المشاهدة (۲۲).
فأول درجات الصوم: هو الكفّ والإمساك عن المفطّرات التي ذكرتها الشريعة، وهذه أدنى المراتب، والتي يشترك فيها جميع المكلفين على اختلاف مستوياتهم الإيمانية والروحية. وثانيها: هو الصوم عن المحرمات والمحظورات، فعن أبي عبد الله(ع): “إذا صُمْتَ فلْيَصُم سمعُك وبصرُك وشعرك وجلدك، وعدّ أشياء غير هذا، قال: ولا يكن يوم صومك كيوم فطرك”(۲۳).
فالصوم عن المحرمات مرتبة يجب علينا كمؤمنين أن نصرّ عليها، وهي من أفضل أعمال هذا الشهر الكريم، بل إنّ أول ما يجب على المؤمن أن يحرص عليه في هذا الشهر العظيم من عمل هو الورع عن معاصي الله تعالى، فقد جُعل الورع غاية للصوم، ومن الواضح أن السلوك إذا كان لا يقود إلى الغاية فلا فائدة فيه، ولا منفعة تترتب عليه، فالتقوى هي الأساس لسائر المقامات ولا يمكن الوصول للمقامات الإيمانية المتقدمة من دونها.(۲۴).
وفي خطبة النبي(ص) المعروفة حول شهر رمضان أن الإمام أمير المؤمنين(ع) سأل رسول الله(ص) قائلاً: يا رسول الله، ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز وجل (۲۵).
وواضح أن مَن يبني ولا يهدم أفضل ممن يبني ويهدم فعنهم (ع): جدّوا واجتهدوا وإن لم تعملوا فلا تعصوا فإن من يبني ولا يهدم يرتفع بناؤه وإن كان يسيراً وإن من يبني ويهدم يوشك أن لا يرتفع بناؤه(۲۶).
فلا بدّ للصائم من اجتناب معاصي الله تعالى ليزكو صومه ويؤثر أثره المطلوب. وثالثها: هو الصوم عن المكروهات وما لا ينبغي من النوايا والأفعال والأقوال. ورابعها: هو الصوم عما سوى الله تعالى والإعراض عن غيره تعالى، وهذه هي أرقى درجات الصوم وأسماها. وبعضهم أدرج المرتبة الثالثة في الثانية وجعل مراتب الصوم ثلاث مراتب، وأطلق على الأولى صوم العموم والثانية صوم الخصوص والثالثة خصوص الخصوص(۲۷).
ومن أبرز ما يحث عليه الإسلام، ويدعو له الدين، هو تقوية الروابط الأسرية والاجتماعية، بل إن شهر رمضان هو شهر تقوية هذه العلاقات وترميم ما انثلم منها، أو تهدّم فقد روي عن رسول الله (ص): رجب شهر الله الأصم يصب الله فيه الرحمة على عباده، وشهر شعبان تنشعب فيه الخيرات، وفي أول ليلة من شهر رمضان تُغل المردة من الشياطين ويغفر في كل ليلة سبعين ألفا، فإذا كان في ليلة القدر غفر الله بمثل ما غفر في رجب وشعبان وشهر رمضان إلى ذلك اليوم إلا رجل بينه وبين أخيه شحناء فيقول الله عز وجل انظروا هؤلاء حتى يصطلحوا.(۲۸).
وروي عن الإمام الباقر (ع): “ما من مؤمنين اهتجرا فوق ثلاث إلا وبرئتُ منهما في الثالثة، فقيل له: يا بن رسول الله هذا حال الظالم فما بال المظلوم؟ فقال (ص): ما بال المظلوم لا يصير إلى الظالم فيقول: أنا الظالم حتى يصطلحا؟!”(۲۹).
وجاء التأكيد الشديد على صلة الأرحام في هذا الشهر الكريم، والتي هي من أهم العلاقات الاجتماعية وأولاها بالمراعاة، فقد ورد في خطبة النبي (ص) قوله: “ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه من قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه..”. ومن الأعمال التي أوليت مزيد عناية في هذا الشهر العظيم هي الاهتمام بالقرآن الكريم، والعودة إليه فهو الحبل الممدود بين السماء والأرض وعهد الله إلى خلقه والذي في التمسّك به صلاح الفرد والأمة جمعاء.
فالأعمال التي ينبغي الحرص عليها في هذا الشهر العظيم كثيرة، والقربات إلى الله تعالى في هذا الشهر متعددّة، نختم حولها الكلام بذكر خطبة النبي(ص) حول الشهر وبعض وظائفه ومسنوناته فكل الصيد في جوف الفرا. عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام قال: “إن رسول الله (ص) خطبنا ذات يوم فقال: أيها الناس انه قد أقبل إليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة شهر هو عند الله أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات”.
هو شهر دعيتم فيه إلى ضيافة الله وجعلتم فيه من أهل كرامة الله أنفاسكم فيه تسبيح ونومكم فيه عبادة وعملكم فيه مقبول ودعائكم فيه مستجاب فاسألوا الله ربكم بنيات صادقة وقلوب طاهرة أن يوفقكم لصيامه وتلاوة كتابه فان الشقي من حرم من غفران الله في هذا الشهر العظيم. واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه وتصدقوا على فقرائكم ومساكينكم ووقروا كباركم وارحموا صغاركم وصلوا أرحامكم واحفظوا ألسنتكم وغضوا عما لا يحل النظر إليه أبصاركم وعما لا يحل الاستماع إليه أسماعكم وتحنّنوا على أيتام الناس يُتحنّن على أيتامكم وتوبوا إلى الله من ذنوبكم.
وارفعوا إليه أيديكم بالدعاء في أوقات صلواتكم فإنها أفضل الساعات ينظر الله عز وجل فيها بالرحمة إلى عباده يجيبهم إذا ناجوه ويلبّيهم إذا نادوه ويستجيب لهم إذا دعوه يا أيها الناس إن أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكوها باستغفاركم وظهوركم ثقيلة من أوزاركم فخففوا عنها بطول سجودكم. واعلموا أن الله تعالى ذكره أقسم بعزته أن لا يعذب المصلين والساجدين ولا يروعهم بالنار يوم يقوم الناس لرب العالمين.
أيها الناس من فطر منكم صائما مؤمنا في هذا الشهر كان له بذلك عند الله عتق نسمة ومغفرة لما مضى من ذنوبه فقيل يا رسول الله وليس كلنا يقدر على ذلك فقال (عليه السلام): اتقوا النار ولو بشق تمرة اتقوا النار ولو بشربة من ماء. أيها الناس من حسّن منكم في هذا الشهر خلقه كان له جوازا على الصراط يوم تزل فيه الأقدام ومن خفف في هذا الشهر عما ملكت يمينه خفف الله عنه حسابه ومن كفّ فيه شره كفّ الله فيه (۳۰) غضبه يوم يلقاه ومن أكرم فيه يتيما أكرمه الله يوم يلقاه ومن وصل فيه رحمه وصله الله برحمته يوم يلقاه من قطع رحمه قطع الله عنه رحمته يوم يلقاه.
ومن تطوّع فيه بصلاة كتب له براءة من النار ومن أدى فيه فرضا كان له ثواب من أدى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور ومن أكثر فيه من الصلاة علي ثقل الله ميزانه يوم تخفف الموازين. ومن تلا فيه آية من القرآن كان له مثل أجر من ختم القرآن في غيره من الشهور. أيها الناس إن أبواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم (أن) لا يغلقها عليكم وأبواب النيران مغلقة فاسألوا ربكم (أن) لا يفتحها عليكم والشياطين مغلولة فاسألوا ربكم (أن) لا يسلّطها عليكم. قال أمير المؤمنين (عليه السلام) (فقمت خ ل) فقلت: يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر؟ فقال: يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذه الشهر الورع عن محارم الله.
ثم بكى فقلت: يا رسول الله ما يبكيك فقال: يا علي ابكي لما يستحل منك في هذا الشهر كأني بك وأنت تصلي لربك وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة ثمود فضربك ضربة على فرقك (قرنك) فخضب منها لحيتك. قال: “أمير المؤمنين (عليه السلام) فقلت يا رسول الله: ذلك في سلامة من ديني؟فقال: في سلامة من دينك ثم قال (عليه السلام): يا علي من قتلك فقد قتلني ومن أبغضك فقد أبغضني ومن سبّك فقد سبني لأنك مني كنفسي روحك من روحي وطينتك من طينتي”.
إن الله تبارك وتعالى خلقني وإياك واصطفاني وإياك واختارني للنبوة واختارك للإمامة ومن أنكر إمامتك فقد أنكرني (۳۱) نبوتي يا علي أنت وصيي وأبو ولدي وزوج ابنتي وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد موتي أمرك أمري ونهيك نهي أقسم بالذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البرية إنك لحجة الله على خلقه وأمينه على سره وخليفته على عباده. (۳۲).
_____________